صالة سفر تحاط بهالة من علامات الاستفهام، كيف لا وهي في معزل عن باقي المسافرين، لا يتواجد فيها إلا من دُوِّنَ اسمه في كشف مرسل من القاهرة عبر منتفعين من قطاع غزة، بعد دفع آلاف الدولارات في جيوب الفاسدين، إنها مكان مكيف خصص مؤقتًا لـسفر "أصحاب التنسيقات"، بحسب العاملين في المعبر.
الهدوء والطمأنينة هما حالة المسافرين في هذه الصالة الواسعة التي يتم فيها تجميع كل مسافر أجرى تنسيقًا مصريا لمغادرة قطاع غزة، دون الانتظار في الطوابير الطويلة للمواطنين من أصحاب الحالات الإنسانية.
فيما تختلف الصورة عند مسافري صالة أبو يوسف النجار بخان يونس، حيث يتم هناك إعداد المسافرين المسجلين في كشوفات وزارة الداخلية في غزة، وتعلو أصوات الصراخ والبكاء والحسرة بين الآلاف من هؤلاء المسافرين الذين لم يتمكنوا في السفر عبر معبر رفح البري.
بين هذا المشهد وذاك، يتسلل أحد أصحاب مكاتب السفريات مستغلاً حاجة المواطنين الماسة للسفر في غزة، من خلال عرض السفر عليهم دون الانتظار أو التسجيل، مقابل دفع مبلغ مالي تصل قيمته إلى 3 آلاف دولار أمريكي وهو ما يعرف "بالتنسيق" بين أهالي قطاع غزة.
و"التنسيق" هو استغلال لحاجة المواطنين الراغبين بالسفر من خلال تلقي أموال مقابل تسهيل سفرهم عبر معبر رفح البري عبر التواصل مع متنفذين في المعبر بالجانب المصري لإرسال أسمائهم إلى الجانب الفلسطيني يطلبون منهم سفرهم مقابل تسهيل سفر المسافرين الآخرين.
وبحسب الجهات الرسمية فإن عدد المسافرين الذين تمكنوا من السفر من خلال قائمة "التنسيقات" خلال الأيام التسعة التي فُتح فيها المعبر في عام 2016، بلغ 1680 مسافرًا من إجمالي 6189 مسافرًا تمكنوا من السفر خلال أيام فتح المعبر التسعة لهذا العام، وهو ما نسبته 27% من إجمالي المسافرين.
وبحساب بسيط، لمجموع 1680 مسافرا، سافروا ضمن كشف التنسيقات، بعدما دفع كل واحد منهم 3 آلاف دولار، يكون المسؤولون في الجانب المصري من المعبر قد جمعوا خلال تسعة أيام عمل في المعبر خمسة ملايين وأربعين ألف دولار أمريكي.
من هنا كان طرف الخيط الذي بدأ فيه معد التحقيق لمعرفة تفاصيل عملية التنسيق التي يتم فيها دفع الأموال، والجهة التي تصلها تلك الأموال، وكيفية استلامها، والنسبة التي يحصل عليها "المنسق" الفلسطيني، ودور الجهات الرسمية في غزة في هذه العملية.
وتبين لمعد التحقيق أن العملية تبدأ من خلال مكاتب سياحة وسفر منتشرة في قطاع غزة، تعمل بترخيص من وزارة الداخلية (ويقدمون خدمات للحج والعمرة)، حيث يقوم هؤلاء بتسجيل الراغبين بالسفر وأخذ أموال مالية منهم بشكل نقدي ومنحهم سندات قبض، وآخرين باتفاق مكتوب يثبت استلام أموال من المسافرين.
وتوصل معد التحقيق إلى أن الأموال التي يحصل عليها أصحاب المكاتب يقومون بتحويلها إلى مدينة العريش شمال مصر لعمال مصريين يعملون في معبر رفح البري، من خلال نظام التحويلات المالية السريعة "ويسترن يونيون" و"اكسبرس"، بعيدًا عن أعين الرقابة.
وتكشف لمعد التحقيق أن المسئول عن "التنسيق" ووضع أسماء المسافرين الذين قاموا بدفع الأموال هم ضباط في جهاز المخابرات الحربية المصرية، حيث يقومون باستلام الأموال من العمال المصريين الذين تكون مهمتهم التواصل مع "المنسق" الفلسطيني وجلب الأموال منهم.
معد التحقيق خاض تجربة الحصول على تنسيق سفر بنفسه من الألف للياء لمعرفة كيف تتم العملية، وأين تذهب الأموال، وما هي قيمتها.
ذهب معد التحقيق إلى أحد المكاتب المشهورة في إعداد تنسيقات السفر وسط مدينة غزة، وطلب من الموظف الموجود في المكتب إجراء تنسيق سفر له عبر معبر رفح البري، وتوضيح كيف تتم عملية السفر من الألف إلى الياء.
طلب موظف مكتب السياحة والسفر المرخص من معد التحقيق 2500 دولار أمريكي مقابل سفره عبر المعبر دون الحاجة إلى التسجيل أو الانتظار، وعند الاحتجاج على ارتفاع المبلغ، قال الموظف: إن "المكتب يحصل فقط على 200 دولار من إجمالي المبلغ، والباقي يتم توزيعه في الجانب المصري من معبر رفح ما بين عمال وضباط مصريين".
ويبين الموظف أن المبلغ المالي يتم تحويله إلى مدينة العريش عن طريق حوالة "ويسترن يونيون"، ولا يسمح بالسفر إلا بعد وصول المبلغ للجانب الآخر.
خالد اسم مستعار لأحد الأشخاص الذين يعملون في مجال التنسيق، والذي يوضح أنه جمع مبالغ مالية وقدرها 14 ألف دولار من عدد من مسافرين راغبين في السفر، وأرسل أسماءهم إلى أحد العاملين في المعبر المصري وتعهد له بإرسال المبلغ فور سفرهم.
ويقول خالد لصحيفة "فلسطين": "بالفعل قام هذا العامل في المعبر المصري بتسفير هؤلاء الأشخاص وطلب مني إرسال الأموال، ولكن رفضت ذلك لأنه قام قبل فترة بأخذ أموال مني دون مساعدة الأشخاص الذين أرسلتُ له أسماءهم".
المهندس أحمد منصور شاب قدم من سلطنة عمان لزيارة زوجته وأبنائه المتواجدين في قطاع غزة، تاركًا خلفه وظيفة مرموقة.
بعد أيام من وجود منصور في قطاع غزة، قادمًا عبر معبر رفح، نفذت عملية تفجير في سيناء قتل خلالها عدد من الجنود المصريين، بعدها أغلقت بوابات المعبر لشهور طويلة وانقطع به الحال ولم يجد طريقًا للخروج من غزة.
ويقول منصور لصحيفة "فلسطين": "فتح المعبر بعد ثلاثة شهور وكنت مسجلا مسبقًا في وزارة الداخلية في غزة، ولكن لم أتمكن من السفر بسبب الأعداد الكبيرة للمسافرين، وأغلق المعبر بعد ثلاثة أيام دون عودتي لوظيفتي".
ويشير إلى مشورة أحد أقاربه بطريقة للسفر دون انتظار التسجيل، وهي دفع مبلغ مالي لأحد المكاتب العاملة في غزة مقابل تسهيل سفره عبر المعبر من خلال وضع اسمه على البوابة من الجانب المصري.
لم ينتظر منصور كثيرًا وذهب مسرعًا برفقة قريبه إلى مكتب سفريات في مدينة خان يونس ودفع 3000 دولار مقابل وضع اسمه في كشوفات التنسيقات القادمة من الجانب المصري.
وتمكن منصور من السفر بعد انتظاره لبعض الوقت في الصالة التي خصصت مؤقتًا لـ"أصحاب التنسيقات" في الجانب الفلسطيني، بعد سماع اسمه من قبل أحد العاملين في المعبر من الجانب الفلسطيني، ووصل الجانب المصري وصعد في حافلة الترحيلات إلى مطار القاهرة ومنها إلى سلطنة عمان.
أما "محمد" وزوجته وابنه فقد حصل مكتب السياحة والسفر منهم على مبلغ 9 آلاف دولار أمريكي، مقابل وضع أسمائهم في كشوفات "التنسيقات".
محمد لجأ إلى السفر عبر "التنسيقات المصرية" مضطرًا بسبب عدم تمكنه من السفر عبر كشوفات وزارة الداخلية التي تحتاج إلى وقت طويل للتمكن من السفر في ظل تكدس المسافرين وازدياد أعدادهم بشكل مهول.
ويوضح لصحيفة "فلسطين"، أنه يعلم بوقوعه ضحية لابتزاز من قبل المكتب والجهة المصرية التي أخذت أمواله مقابل تسهيل سفره، لكن حاجته الماسة للسفر وخوفه من فقدان وظيفته والإقامة الخاصة به دفعاه للقبول بذلك ودفع هذا المبلغ الكبير مرغمًا.
وكيل وزارة الداخلية في غزة، كامل أبو ماضي، يؤكد أن كشوفات "التنسيقات" هي مدخل فساد كبير على الجانب المصري، لأنه لا يتم العمل بها بشكل رسمي، حيث يقوم الجانب المصري مع كل مرة يتم فيها فتح المعبر بإرسال كشوفات لا يوجد عليها أي ترويسة أو ختم من أي جهة مصرية.
ويكشف أبو ماضي في تصريح لصحيفة "فلسطين"، أن وزارته قامت بالتعامل مع عدة حالات فردية من مسافرين تعرضوا للنصب من عدة مكاتب سياحة وسفر تقوم بالتعامل "بالتنسيقات"، حيث قام أصحاب المكاتب بأخذ أموال من مواطنين دون تسفيرهم.
ويوضح أن المواطنين في قطاع غزة يلجؤون إلى دفع الأموال مقابل سفرهم، بسبب وجود عدد منهم مدرجين أمنيًا من قبل السلطات (أي أنهم محظورون من السفر عبر معبر رفح)، لذلك يقومون بدفع أموال لمكاتب من أجل تسهيل سفرهم بالتعاون مع الجانب المصري.
ويضيف: "إن العديد من المسافرين يتعرضون للاستغلال من أصحاب تلك المكاتب، والوزارة تحذر أصحاب المكاتب وتحقق مع كل من يقوم باستغلال المواطنين، وتتعامل معه وفق القانون".
مصدر فلسطيني مسئول في معبر رفح البري، يؤكد أن الجانب المصري في كل مرة يتم فتح معبر رفح فيها يقوم بإرسال كشوفات تحمل أسماء ما بين 300- 350 مسافراً، ويطلب تسهيل سفرهم، وإعطاءهم الأولوية في الوصول إلى الصالة المصرية من المعبر.
ويقول المصدر الذي اشترط عدم الكشف عن هويته، لصحيفة "فلسطين": إن "الكشف الوارد من الجانب المصري لا يحمل أي ترويسة لوزارة الداخلية المصرية أو جهاز المخابرات العامة أو أي توقيع من قبل أي مسئول، ويكون الكشف عبارة عن أوراق A4 تكتب الأسماء فيها بخط اليد".
ويوضح أن مسافري "التنسيقات" يتم جمعهم في صالة منفردة بالمعبر بعيدًا عن المسافرين العاديين، ويتم السماح بسفر الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في الكشف المرسل من الجانب المصري.
ويشير المصدر إلى عدم وجود أي دور للعاملين في معبر رفح من الجانب الفلسطيني، في عملية التنسيق سوى السماح للأسماء الواردة من الجانب المصري بالسفر فقط.
ويتطابق ذلك أيضًا مع ما صرح به مصدر مسئول في وزارة الداخلية في قطاع غزة، طلب عدم الكشف عنه اسمه، بأن ضباط الأمن المصريين في المعبر يرسلون كشفا مكتوبا بخط اليد يضم أسماء مئات المسافرين، ولا يحمل ترويسة لأي جهة رسمية مصرية، ولا ختما أو توقيعا.
ويبين أن الحصة الأكبر من المبلغ تصل إلى الضابط المصري، وأن جزءا صغيرا جدًا يكون من نصيب المنسق الفلسطيني الذي قام بإرسال الأسماء.
ويوضح أن أغلب المسافرين ضمن حافلة التنسيقات ليسوا بحاجة ماسة للسفر، والبعض منهم تجار يذهبون ليوم ثم يعودون بكميات من الدخان والمعسل ويحققون أرباحا عالية.
وزارة السياحة الجهة التي تشرف على التراخيص لمكاتب السياحة والسفر في قطاع غزة وعلى لسان مدير عام الإدارة العامة للسياحة رزق الحلو، يؤكد أن القانون الأساسي الفلسطيني يحظر على مكاتب السفر جمع أي أموال من المواطنين مقابل تسهيل سفرهم عن طريق "التنسيق".
ويقول الحلو لصحيفة "فلسطين": "إن القانون يسمح لمكاتب السفر بأخذ أموال من الراغبين بالسفر مقابل إصدار فيزات سفر لهم أو مهمات أخرى في السفر كالأوراق أو تذاكر الطيران، ولكن يمنع عليهم أخذ أموال من المواطنين مقابل تسهيل سفرهم عبر المعبر".
ويبين أن وزارته أغلقت العديد من مكاتب السياحة والسفر في قطاع غزة، بعد تسجيل مخالفات عليهم تتعلق بأخذ أموال من المواطنين في قضايا تتعلق في السفر".
ويوضح أن المكاتب الموجودة في غزة من 9 سنوات لم تجدد رخصتها لمزاولة المهنة، لافتًا إلى أن وزارة السياحة لا تعمل على متابعتها خلال هذه الأيام بسبب الظروف التي يمر بها القطاع السياحي وخاصةً استمرار إغلاق معبر رفح.